يعتبر مفكر الإخوان وأديبهم الشهيد سيد قطب أول من اكتشف نجيب محفوظ وتنبأ له بمستقبل أدبي خاصة فيما يتعلق بكتاباته عن الحارة المصرية , وهذا ما تؤكده السطور القادمة التي كتبها صاحب الظلالعن ابداع نجيب محفوظ وهو في بدايات طريقه الأدبي إثر صدور «خان الخليلي» والتي نشرتها الشرق الأوسط .سيد قطب* هذه هي القصة الثالثة للمؤلف الشاب، سبقتها قصة "رادوبيس" وقصة "كفاح طيبة" وكلتاهما قصتان معجبتان مستلهمتان من التاريخ المصري القديم.ولكن هذه القصة الثالثة هي التي تستحق ان تفرد لها صفحة خاصة في سجل الادب المصري الحديث، فهي منتزعة من صميم البيئة المصرية في العصر الحاضر، وهي ترسم في صدق ودقة، وفي بساطة وعمق، صورة حية لفترة من فترات التاريخ المعاصر، فترة الحرب الاخيرة، بغاراتها ومخاوفها، وبافكارها وملابساتها، ولا ينقص من دقة هذه الصورة وعمقها انها جاءت في القصة اطارا لحوادثها الرئيسية، وبيئة عاشت القصة فيها.ولكن هذا كله ليس هو الذي يقتضي الناقد ان يفرد لهذه القصة صفحة متميزة في كتاب الادب المصري الحديث...انما تستحق هذه الصفحة، لانها تسجل خطوة حاسمة في طريقنا الى ادب قومي واضح السمات متميز المعالم، ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الاجنبية- مع انتفاعه بها- نستطيع ان نقدمه -مع قوميته الخاصة- على المائدة العالمية: فلا يندعم فيها، ولا يفقد طابعه وعنوانه، في الوقت الذي يؤدي رسالته الانسانية، ويحمل الطابع الانساني العام، ويساير نظائره في الآداب الاخرى.وهذه الظاهرة حديثة العهد في الادب المصري المعاصر لم تبرز وتتضح الا في اعمال قليلة من بين الكثرة الغالبة لاعمال الادباء المصريين. وهي في هذه القصة اشد بروزا واكثر وضوحا. فمن واجب النقد اذن ان يسجل هذه الخطوة ويزكيها. والقصة بالذات من الاعمال الفنية التي لا سبيل الى تلخيصها، وحين تلخص تبدو هيكلا عظيما خاليا من الملامح والقسمات التي تحدد الشخصية، وتبرز مواضع الجمال والقبح فيها... فلا مفر اذن من الحديث العام عن القصة دون الدخول في التفصيلات الا بمقدار.ليس في القصة كلها صخب ولابريق... انها خلو من الالتماعات الذهنية والافكار الكبيرة. ليس فيها "لافتة" واحدة من اللافتات التي تستوقف النظر. ومحيطها ذاته محيط عادي. واحداثها وحوادثها مما يقع كل يوم في اوساطنا المصرية العادية. اللهم الا تلك الغارات الجوية التي روعت بعض المدن في زمن الحرب >والمهارة الفنية في الرواية ليست فى التسلسل القصصي، والبراعة الصادقة في رسم الشخصيات، والدقة التامة في تتبع الانفعالات... ليست هذه السمات وحدها هي التي تعطي القصة كل قيمتها... ان هناك عنصرا آخر هو الذي يخرج بالقصة من محيطها الضيق، محيط شخصياتها المعدودة، وحوادثها المحدودة في فترة من فترات الزمان، الى محيط الانسانية الواسع، ويصلها هناك بدورة الفلك وحلبة الابد...انك لتقرأ ثم تطويها، لتفتح قصة الانسانية الكبرى... قصة الانسانية الضعيفة في قبضة القدر الجبارة. قصة السخرية الدائبة التي تتناول بها الاقدار تلك الانسانية المسكينة.هذه اسرة تفر من هول الغارات وخطر الموت من حي الى حي. فما تغادر هذا الحي الآمن! الا وقد اصابها الموت في انضر زهرة واقوم عود!وهذا رجل شاخ قلبه، وانطوى على نفسه، وآوى الى يأس مرير ولكنه هادىء ساكن. فما يلبث القدر ان يثير في قلبه اعصارا على غير اوان، ويزيح الركام عن البذور المطمورة في قلبه الهرم، ليعود فجأة فيقصف الاعواد التي تنبت في بطء وحذر. يقصفها في قسوة عابئة، وبيد من؟ بيد احب الناس اليه: شقيقه وربيبه! ولو قد امهله بضعة ايام لانتهى الى الواحة الممرعة بعد طول الجدب في الصحراء. ولو قد تقدم به اياما لاعفاه من اضافة تجربة فاشلة الى تجاربه المريرة!وهذا شاب مستهتر عابث، ما يكاد الحب يقومه، ويبعث فيه الجد والمبالاة حتى يخطفه الموت، الذي لم يخطفه ايام العبث والاستهتار!والارض تدور، والزمن يمضي، والناس يقطعون الطريق المجهول كأن لم يكن شيء مما كان، والقدر الساخر من وراء الجميع لا يبدو عليه حتى مظهر الجد في سخريته المريرة. والمؤلف نفسه لا يكاد يلتفت الى الدائرة الوسيعة التي تنتهي اليها قصته، لانه يلقى انتباهه كله الى ادارة الحوادث ورسم الشخصيات!!!ولعل من الحق حين اتحدث عن قصة "خان الخليلي" ان اقول: انها لم تنبت فجأة، فقد سبقتها قصة مماثلة، تصور حياة اسرة وتجعل حياة المجتمع في فترة حرب اطارا للصورة... تلك هي قصة "عودة الروح" لتوفيق الحكيم. ولكن من الحق ايضا ان اقرر ان الملامح المصرية الخالصة في "خان الخليلي" اوضح واقوى، ففي "عودة الروح" ظلال فرنسية شتى. والمع ما في "عودة الروح" هو الالتماعات الذهنية والقضايا الفكرية بجانب استعراضاتها الواقعية، اما "خان الخليلي" فافضل ما فيها هو بساطة الحياة، وواقعية العرض، ودقة التحليل. وقد نجت «خان الخليلي» من الاستطرادات الطويلة في «عودة الروح». فكل نقط الدائرة فيها مشدودة برباط وثيق الى محورها.وكل رجائي الا تكون هذه الكلمات مثيرة لغرور المؤلف الشاب، فما يزال امامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء الى خصائصه، واتخاذ اسلوب فني معين توسم به اعماله، وطابع ذاتي خاص تعرف به طريقته، وفلسفة حياة كذلك تؤثر في اتجاهه.وبعض هذه الخصائص قد اخذ في البروز والوضوح في قصصه السابقة وفي هذه القصة، وهي الدقة والصبر في رسم الخوالج والمشاعر وتسجيل الانفعالات المتوالية، والبساطة والوضوح في رسم صورة لحياة ابطاله.والبقية تأتي ان شاء الله!
* نشرت هذه المقالة في مجلة "الرسالة"، العدد 650 يوم 17 ديسمبر 1945. وهي
0 تعليق:
إرسال تعليق