فهمي هويدي
المقال الذي منع نشره في الاهرام ونشر بجريدة المصري اليوم
هذه ثلاث حكايات مصرية، لا أريد أن أصدقها، ولا أستطيع أن أتجاهلها، وأتمنى أن تكذب في أسرع وقت، شريطة أن يتم ذلك من خلال طرف يؤتمن على تقصي واستجلاء وجه الحقيقة أو الادعاء في وقائعها.
(1)
ذات صباح. تلقيت من أحد الأصدقاء قرصاً مدمجاً (سي. دي) من صديق أبلغني أنه يتضمن شريطاً من المهم أن أراه. وحين شاهدته على شاشة الكمبيوتر لم أصدق ما رأيت فيه وما سمعت، إذ روعني مضمونه، فسارعت إلى إغلاق الجهاز ولم أكمل المشاهدة. لكن الصور التي رأيتها والصيحات التي سمعتها ظلت تلاحقني مدوية في داخلي طوال الوقت. وإذ انتابني الشك في الشريط، خصوصاً أن لأهل الخبرة في هذا المجال كلاما كثيرا عن تقدم فنون التركيب والافتعال في صناعة أمثال تلك الأقراص والأشرطة، فإنني طلبت ممن هو أدرى مني بعالم الاتصالات وتقنياته أن يتحرى المواقع التي تهتم بهذه الأمور. بعد حين جاءني من يقول إن الصور التي رأيتها موجودة على شبكة الإنترنت، خصوصاً موقعي يوتيوب (youtube) و”ميتا كافيه دوت كوم”، والأول مشهور على مستوى العالم، ويعد أكبر موقع معلوماتي لأفلام الفيديو. أضاف محدثي أن ثمة موقعاً باللغة العربية عن “التعذيب في مصر” تضمن تفصيلات كثيرة في الموضوع. وحين رجعت إلى تلك المواقع وجدت كلامه صحيحاً، حيث شاهدت مرة أخرى ولم أكمل ذات الصور والمشاهد، وبعد يومين فوجئت ببعض الصور الصاعقة منشورة في صحيفة “الفجر” (عدد 13/11)، مع تعليق قال كاتبه ما نصه: وصلني على البريد الإلكتروني فيديو تعذيب مواطن مصري في قسم بوليس، الفيديو منشور على مدونة “الوعي المصري” التي قال محررها إنه مرسل إليه من مدونة أخرى اسمها “دماغ ماك”، التي قال صاحبها إنه اكتشف الفيديو على “موبايل” جاره، فقرر نشره رغم أنه مقزز.
من هذه القرائن أدركت أن الصور متداولة بين أيدي كثيرين، على مواقع الإنترنت والهواتف النقالة ومن خلال الأقراص المدمجة. الأمر الذي يعني أن محيط انتشارها تجاوز النطاق المحلي إلى المستوى العالمي، ويعني أن الصور البشعة التي ظهرت والاستغاثات والصرخات التي ترددت خلالها ذاع أمرها في كل مكان. وفي غياب أي تعليق على الموضوع أو إيضاح لملابساته وحدوده، فإن من يشاهد الصور سيتعامل معها باعتبارها حقيقة مسلماً بها.
تعجز الكلمات عن وصف محتوى الشريط، الذي يسجل واقعتين على الأقل، لاثنين من المواطنين العاديين تم اقتيادهما إلى مكانين مختلفين، يرجح أنهما من أقسام الشرطة. أحدهما وقف ذليلاً وبائساً وهو يتلقى سيلاً من الصفعات على وجهه و”قفاه” من ضابط ظل يسخر منه وهو يعاجله بها، في حين أن هناك آخرين جلسوا في المكان يتضاحكون، ويشجعون الضابط الذي ذكروا اسمه وظهرت رتبته العسكرية في الصور. المواطن الثاني ألقي على الأرض، وبدا نصفه الأسفل عارياً، وساقاه مرفوعتين، وثمة صوت لضابط يتوعده وينهال عليه بالسباب والشتائم البذيئة. وهو في هذا الوضع جيء بعصا هتك بها عرض المواطن، الذي أصيب بلوثة جعلته يصرخ بأعلا صوته مسترحما ومستغيثاً “بالباشا” الذي ظل يواصل إطلاق شتائمه الجارحة، التي كان سب الأم قاسماً مشتركاً بينها.
(2)
الحكاية الثانية نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. والشخصية الرئيسية فيها مواطن مصري حاصل على حق اللجوء السياسي في ايطاليا. اسمه حسن مصطفى أسامة وشهرته “أبو عمر المصري”. صاحبنا هذا اختطف من ميلانو في عام ،2003 إثر عملية قام بها عملاء المخابرات المركزية الأمريكية مع جهاز المخابرات الإيطالي. ما أثار القضية مجدداً هذه الأيام أن المصري المخطوف سرب رسالة من 11 صفحة إلى صحيفة “كوريري ديلاسيرا” روى فيها كيف اختطف أثناء سيره في أحد شوارع ميلانو، وكيف نقل إلى مصر ليحقق معه اثنان من “الباشاوات”. أحدهما مصري والآخر أمريكي، وكيف تعرض للتعذيب عن طريق الصعق بالكهرباء إلى أن فقد السمع وتدهورت حالته الصحية. هذه الرسالة أثارت ضجة في روما، لأنها جاءت دليلاً آخر أثبت ضلوع المخابرات الأمريكية مع نظيرتها الإيطالية في ترتيب خطف “أبو عمر”. وأحدثت الضجة صداها في أوساط الاتحاد الأوروبي. التي أدركت أن حكومة سيلفيو برلسكوني السابقة تسترت على العملية، كما اكتشفت أن رئيس المخابرات الإيطالية، أدلى بشهادة كاذبة حول الموضوع أمام البرلمان الأوروبي.
ما يهمنا في السياق الذي نحن بصدده هو المعلومات التي أوردها أبو عمر في رسالته المنشورة في روما، وعممتها “واشنطن بوست”، وتحدثت عن وقائع التعذيب الذي تعرض له الرجل في مصر، الأمر الذي يضيف صفحة جديدة إلى سجل المعلومات التي سبق أن نشرتها الصحيفة الأمريكية ذاتها عن ترحيل السلطات الأمريكية بعد 11 سبتمبر/ أيلول لأعداد من المشتبهين إلى ثلاث دول عربية (حددتها بالاسم)، لانتزاع المعلومات منهم بالوسائل التي لا تجيزها القوانين الأمريكية أو الأوروبية.
رغم أن القصة نشرت في واشنطن في (10/11)، كما أن صحيفة “المصري اليوم” عرضت في عدد (14/11) تقريراً مفصلاً حول الموضوع أعده المركز الكندي لأبحاث العولمة، إلا أن الجهات المعنية في مصر التزمت الصمت إزاء المعلومات، الأمر الذي أسهم في ذيوع البلبلة والشك والحيرة.
الحكاية الثالثة لا أستطيع أن أطيل فيها أو أفصل، لأسباب عدة أهمها أن موضوعها شهادة لأحد المعتقلين السابقين، اسمه محمد الدريني، الذي قدر له أن يقضي خمسة عشر شهراً متنقلاً بين السجون والمعتقلات في محافظات مصر. وفي تجواله ذاك اقترب من العالم الآخر الذي نسمع عنه ولا نراه، وعاش بين القابعين في أرجاء ذلك العالم، (بعضهم منذ ربع قرن على الأقل، أي منذ اغتيال الرئيس السادات في عام 81) وسجل ما رآه وما سمعه في كتاب من مائتي صفحة صدر مؤخراً تحت عنوان “عاصمة جهنم”.
ورغم أن لي خبرة متواضعة في سجون مصر قبل نصف قرن، إلا أن الذي قرأته في الكتاب فاجأني وأفزعني، إذ وجدته يتجاوز حدود الخيال، ويرسم صورة لأهوال لا تخطر على قلب بشر. غير أنني مازلت رافضاً تصديق ما فيه، لأن مؤلف الكتاب طرف وليس محايداً. مع ذلك فإن محتواه، الذي تضمن ما لا حصر له من المشاهدات والوقائع والأسماء التي تحدثت عنها تقارير منظمات حقوق الإنسان بدرجة أو أخرى، يرشحه لأن يكون نموذجاً للتحقيق والدراسة، سواء من جانب المنظمات المعنية أو أي لجنة برلمانية لتقصي الحقائق.
(3)
لأنه لا يوجد دخان من غير نار، فإنه يتعين علينا أن نعترف بأمور ثلاثة، أولها أن التعذيب له تاريخ في مصر منذ العصر الملكي. وقصة “العسكري الأسود” الذي كان يؤمر بانتهاك عرض الرجال رمز لتلك الحقبة. الأمر الثاني أن نطاق التعذيب اتسع بشكل ملحوظ في أعقاب ثورة 23 يوليو، التي ذاع فيها أمر السجن الحربي وقائده حمزة البسيوني، وانضم إليه في تلك الحقبة معتقلا أبو زعبل والوادي الجديد. وخريجو سجون تلك المرحلة لهم كتابات عدة صورت ما جرى وراء جدرانها. الأمر الثالث أن اغتيال الرئيس السادات في عام 81، وإعلان الطوارئ منذ ذلك الحين، كان بمثابة نقطة تحول كبيرة في ذلك المسار. إذ في هذه المرحلة حدث تطوران مهمان، فمن ناحية ترتب على اتساع نطاق المواجهة بين أجهزة الأمن وبين الجماعات المتطرفة والإرهابية أن جرى التوسع في عمليات الاعتقال والتعذيب، ما أدى إلى انتشار الظاهرة واستفحالها، بحيث شملت المواطنين العاديين وليس الإرهابيين أو المعارضين السياسيين وحدهم. يسّر ذلك وشجع عليه أن قانون الطوارئ أطلق يد الأجهزة الأمنية في التعامل مع المجتمع خارج القانون، خصوصاً في حالات الضبط والاحتجاز.
من ناحية ثانية، فإن طول المدة التي طبق فيها قانون الطوارئ أحدث تغيراً في ثقافة وسلوك الأجهزة الأمنية، التي باتت تتصرف وكأن الطوارئ الأصل، أما العمل بقواعد القانون العادي وضماناته فقد صار في عرفها استثناء لا يلزم ولا يعتد به. وهو ما سوغ لبعض الباحثين أن يصفوا الحالة بحسبانها نوعاً من “إدمان” الطوارئ، الذي تمكن من سلوك الأجهزة الأمنية، حتى أصبح علاجه أو التطهر منه مستعصياً، ويتطلب مثابرة وجهداً كبيرين. ولعلنا لا نبالغ كثيراً إذا قلنا إن العمل بقانون الطوارئ لأكثر من ربع قرن أضفى على التعذيب شرعية نسبية، في أوساط أجهزة الأمن على الأقل، سمحت له بأن يستفحل، وأن يصبح خارجاً عن السيطرة بمضي الوقت.
وفي هذا الصدد فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الدور الذي أسهمت به أجواء ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول في إشاعة التعذيب وغض الطرف عنه، حيث اعتبر التعذيب لاستخلاص المعلومات من “ضرورات” الدفاع عن الأمن. وهو المنطق الذي سوقته وسوغته الولايات المتحدة، وطبقته على غير الأمريكيين بطبيعة الحال، الأمر الذي وفّر غطاء مناسباً لممارسات الأجهزة الأمنية في كل العالم العربي بلا استثناء. التي تذرعت بالحرب على الإرهاب لكي تبرر سلوكها وتتوسع فيه. وهو ما سجلته تقارير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات الدولية المعنية بالأمر.
(4)
يحمد للمناخ السائد في مصر الآن أنه بات يحتمل الحديث في الموضوع بقدر لا ينكر من الصراحة، وتلك إيجابية يلمسها أي قارئ للصحف المستقلة والمعارضة بوجه أخص، الأمر الذي يشجعني على الدعوة إلى إغلاق ذلك الملف، ليس فقط دفاعاً عن كرامة الإنسان والمجتمع المصري، ولكن أيضاً حفاظاً على صدقية الأطروحات التي تتحدث عن الإصلاح السياسي. ذلك أنه لا محل لإطلاق تلك الأطروحات طالما بقي مواطن يعذب أو احتجز بريء في الأقبية والسجون.
أدري أننا بإزاء وضع معقد استفحل فيه دور الأمن حتى تمددت أجهزته أفقياً ورأسياً، فتضخم عددها وصارت أذرعها حاضرة بقوة في مختلف مفاصل الدولة، وهو ما أحدث خللاً في موازين كثيرة. فتقدم الأمن على السياسة، وتوترت العلاقة بين السلطة والمجتمع التي أصبحت قائمة على التربص والخوف. إذ في ظل استمرار نظام الطوارئ تم نسخ شعار “السلطة في خدمة الشعب”، الذي رفع يوماً ما، دلت شواهد الواقع على أن الشعب صار في قبضة الشرطة.
ذلك وضع لا يستقيم مع أي “إصلاح” فضلاً عن أنه ضد التاريخ. ولا يكفي في علاجه الإعلان عن إلغاء قانون الطوارئ واستبداله بقانون للإرهاب لا يكاد يختلف عن سابقه إلا في العنوان، لأن الأهم والأخطر من الاثنين هو عقلية الطوارئ، التي أدمنت إهدار القانون العادي وضماناته، وسوّغت الاعتداء على الحريات العامة، وتعاملت مع المجتمع باعتباره خصماً يتعين مراقبته وتأديبه طول الوقت.
إن إغلاق ملف التعذيب وطي صفحته هما الخطوة الأولى للتقدم على طريق الإصلاح المنشود الذي يلوح هذه الأيام. ولن يتم ذلك إلا بالمصالحة مع المجتمع من خلال أمرين على الأقل، أولهما إطلاق سراح المعتقلين الذين يجدد حسبهم لسنوات طويلة، رغم انتهاء محكومياتهم أو الحكم ببراءتهم. وثانيهما التطهر من ممارسات السنوات السابقة ومعالجة جراحاتها وأحزانها. وأكرر هنا ما سبق أن قلته داعياً إلى تمثل تجربة لجان “الحقيقة والمصالحة” التي شكلت في المملكة المغربية، واستفادت فيها من تجربة جنوب إفريقيا بعد سقوط نظامها العنصري، وهي اللجان التي رعت إطلاق السجناء وتعويض الذين تعرضوا للتعذيب أو الذين فقدوا معيليهم من جرائه. وفي الوقت ذاته اعتذرت للمجتمع بشجاعة عن الممارسات التي أدت إلى كل ذلك. وهو ما أكسب التجربة احترام الجميع وثقتهم، فضلاً عن أن السلطة كبرت بها ولم تصغر.
أخيراً فإنني أكرر أن التعذيب والإصلاح نقيضان لا يجتمعان، تماماً كطريقي السلامة والندامة. وعلينا أن نحسم موقفنا منهما، بحيث نعرف بوضوح إلى أيهما ننحاز.
هذه ثلاث حكايات مصرية، لا أريد أن أصدقها، ولا أستطيع أن أتجاهلها، وأتمنى أن تكذب في أسرع وقت، شريطة أن يتم ذلك من خلال طرف يؤتمن على تقصي واستجلاء وجه الحقيقة أو الادعاء في وقائعها.
(1)
ذات صباح. تلقيت من أحد الأصدقاء قرصاً مدمجاً (سي. دي) من صديق أبلغني أنه يتضمن شريطاً من المهم أن أراه. وحين شاهدته على شاشة الكمبيوتر لم أصدق ما رأيت فيه وما سمعت، إذ روعني مضمونه، فسارعت إلى إغلاق الجهاز ولم أكمل المشاهدة. لكن الصور التي رأيتها والصيحات التي سمعتها ظلت تلاحقني مدوية في داخلي طوال الوقت. وإذ انتابني الشك في الشريط، خصوصاً أن لأهل الخبرة في هذا المجال كلاما كثيرا عن تقدم فنون التركيب والافتعال في صناعة أمثال تلك الأقراص والأشرطة، فإنني طلبت ممن هو أدرى مني بعالم الاتصالات وتقنياته أن يتحرى المواقع التي تهتم بهذه الأمور. بعد حين جاءني من يقول إن الصور التي رأيتها موجودة على شبكة الإنترنت، خصوصاً موقعي يوتيوب (youtube) و”ميتا كافيه دوت كوم”، والأول مشهور على مستوى العالم، ويعد أكبر موقع معلوماتي لأفلام الفيديو. أضاف محدثي أن ثمة موقعاً باللغة العربية عن “التعذيب في مصر” تضمن تفصيلات كثيرة في الموضوع. وحين رجعت إلى تلك المواقع وجدت كلامه صحيحاً، حيث شاهدت مرة أخرى ولم أكمل ذات الصور والمشاهد، وبعد يومين فوجئت ببعض الصور الصاعقة منشورة في صحيفة “الفجر” (عدد 13/11)، مع تعليق قال كاتبه ما نصه: وصلني على البريد الإلكتروني فيديو تعذيب مواطن مصري في قسم بوليس، الفيديو منشور على مدونة “الوعي المصري” التي قال محررها إنه مرسل إليه من مدونة أخرى اسمها “دماغ ماك”، التي قال صاحبها إنه اكتشف الفيديو على “موبايل” جاره، فقرر نشره رغم أنه مقزز.
من هذه القرائن أدركت أن الصور متداولة بين أيدي كثيرين، على مواقع الإنترنت والهواتف النقالة ومن خلال الأقراص المدمجة. الأمر الذي يعني أن محيط انتشارها تجاوز النطاق المحلي إلى المستوى العالمي، ويعني أن الصور البشعة التي ظهرت والاستغاثات والصرخات التي ترددت خلالها ذاع أمرها في كل مكان. وفي غياب أي تعليق على الموضوع أو إيضاح لملابساته وحدوده، فإن من يشاهد الصور سيتعامل معها باعتبارها حقيقة مسلماً بها.
تعجز الكلمات عن وصف محتوى الشريط، الذي يسجل واقعتين على الأقل، لاثنين من المواطنين العاديين تم اقتيادهما إلى مكانين مختلفين، يرجح أنهما من أقسام الشرطة. أحدهما وقف ذليلاً وبائساً وهو يتلقى سيلاً من الصفعات على وجهه و”قفاه” من ضابط ظل يسخر منه وهو يعاجله بها، في حين أن هناك آخرين جلسوا في المكان يتضاحكون، ويشجعون الضابط الذي ذكروا اسمه وظهرت رتبته العسكرية في الصور. المواطن الثاني ألقي على الأرض، وبدا نصفه الأسفل عارياً، وساقاه مرفوعتين، وثمة صوت لضابط يتوعده وينهال عليه بالسباب والشتائم البذيئة. وهو في هذا الوضع جيء بعصا هتك بها عرض المواطن، الذي أصيب بلوثة جعلته يصرخ بأعلا صوته مسترحما ومستغيثاً “بالباشا” الذي ظل يواصل إطلاق شتائمه الجارحة، التي كان سب الأم قاسماً مشتركاً بينها.
(2)
الحكاية الثانية نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. والشخصية الرئيسية فيها مواطن مصري حاصل على حق اللجوء السياسي في ايطاليا. اسمه حسن مصطفى أسامة وشهرته “أبو عمر المصري”. صاحبنا هذا اختطف من ميلانو في عام ،2003 إثر عملية قام بها عملاء المخابرات المركزية الأمريكية مع جهاز المخابرات الإيطالي. ما أثار القضية مجدداً هذه الأيام أن المصري المخطوف سرب رسالة من 11 صفحة إلى صحيفة “كوريري ديلاسيرا” روى فيها كيف اختطف أثناء سيره في أحد شوارع ميلانو، وكيف نقل إلى مصر ليحقق معه اثنان من “الباشاوات”. أحدهما مصري والآخر أمريكي، وكيف تعرض للتعذيب عن طريق الصعق بالكهرباء إلى أن فقد السمع وتدهورت حالته الصحية. هذه الرسالة أثارت ضجة في روما، لأنها جاءت دليلاً آخر أثبت ضلوع المخابرات الأمريكية مع نظيرتها الإيطالية في ترتيب خطف “أبو عمر”. وأحدثت الضجة صداها في أوساط الاتحاد الأوروبي. التي أدركت أن حكومة سيلفيو برلسكوني السابقة تسترت على العملية، كما اكتشفت أن رئيس المخابرات الإيطالية، أدلى بشهادة كاذبة حول الموضوع أمام البرلمان الأوروبي.
ما يهمنا في السياق الذي نحن بصدده هو المعلومات التي أوردها أبو عمر في رسالته المنشورة في روما، وعممتها “واشنطن بوست”، وتحدثت عن وقائع التعذيب الذي تعرض له الرجل في مصر، الأمر الذي يضيف صفحة جديدة إلى سجل المعلومات التي سبق أن نشرتها الصحيفة الأمريكية ذاتها عن ترحيل السلطات الأمريكية بعد 11 سبتمبر/ أيلول لأعداد من المشتبهين إلى ثلاث دول عربية (حددتها بالاسم)، لانتزاع المعلومات منهم بالوسائل التي لا تجيزها القوانين الأمريكية أو الأوروبية.
رغم أن القصة نشرت في واشنطن في (10/11)، كما أن صحيفة “المصري اليوم” عرضت في عدد (14/11) تقريراً مفصلاً حول الموضوع أعده المركز الكندي لأبحاث العولمة، إلا أن الجهات المعنية في مصر التزمت الصمت إزاء المعلومات، الأمر الذي أسهم في ذيوع البلبلة والشك والحيرة.
الحكاية الثالثة لا أستطيع أن أطيل فيها أو أفصل، لأسباب عدة أهمها أن موضوعها شهادة لأحد المعتقلين السابقين، اسمه محمد الدريني، الذي قدر له أن يقضي خمسة عشر شهراً متنقلاً بين السجون والمعتقلات في محافظات مصر. وفي تجواله ذاك اقترب من العالم الآخر الذي نسمع عنه ولا نراه، وعاش بين القابعين في أرجاء ذلك العالم، (بعضهم منذ ربع قرن على الأقل، أي منذ اغتيال الرئيس السادات في عام 81) وسجل ما رآه وما سمعه في كتاب من مائتي صفحة صدر مؤخراً تحت عنوان “عاصمة جهنم”.
ورغم أن لي خبرة متواضعة في سجون مصر قبل نصف قرن، إلا أن الذي قرأته في الكتاب فاجأني وأفزعني، إذ وجدته يتجاوز حدود الخيال، ويرسم صورة لأهوال لا تخطر على قلب بشر. غير أنني مازلت رافضاً تصديق ما فيه، لأن مؤلف الكتاب طرف وليس محايداً. مع ذلك فإن محتواه، الذي تضمن ما لا حصر له من المشاهدات والوقائع والأسماء التي تحدثت عنها تقارير منظمات حقوق الإنسان بدرجة أو أخرى، يرشحه لأن يكون نموذجاً للتحقيق والدراسة، سواء من جانب المنظمات المعنية أو أي لجنة برلمانية لتقصي الحقائق.
(3)
لأنه لا يوجد دخان من غير نار، فإنه يتعين علينا أن نعترف بأمور ثلاثة، أولها أن التعذيب له تاريخ في مصر منذ العصر الملكي. وقصة “العسكري الأسود” الذي كان يؤمر بانتهاك عرض الرجال رمز لتلك الحقبة. الأمر الثاني أن نطاق التعذيب اتسع بشكل ملحوظ في أعقاب ثورة 23 يوليو، التي ذاع فيها أمر السجن الحربي وقائده حمزة البسيوني، وانضم إليه في تلك الحقبة معتقلا أبو زعبل والوادي الجديد. وخريجو سجون تلك المرحلة لهم كتابات عدة صورت ما جرى وراء جدرانها. الأمر الثالث أن اغتيال الرئيس السادات في عام 81، وإعلان الطوارئ منذ ذلك الحين، كان بمثابة نقطة تحول كبيرة في ذلك المسار. إذ في هذه المرحلة حدث تطوران مهمان، فمن ناحية ترتب على اتساع نطاق المواجهة بين أجهزة الأمن وبين الجماعات المتطرفة والإرهابية أن جرى التوسع في عمليات الاعتقال والتعذيب، ما أدى إلى انتشار الظاهرة واستفحالها، بحيث شملت المواطنين العاديين وليس الإرهابيين أو المعارضين السياسيين وحدهم. يسّر ذلك وشجع عليه أن قانون الطوارئ أطلق يد الأجهزة الأمنية في التعامل مع المجتمع خارج القانون، خصوصاً في حالات الضبط والاحتجاز.
من ناحية ثانية، فإن طول المدة التي طبق فيها قانون الطوارئ أحدث تغيراً في ثقافة وسلوك الأجهزة الأمنية، التي باتت تتصرف وكأن الطوارئ الأصل، أما العمل بقواعد القانون العادي وضماناته فقد صار في عرفها استثناء لا يلزم ولا يعتد به. وهو ما سوغ لبعض الباحثين أن يصفوا الحالة بحسبانها نوعاً من “إدمان” الطوارئ، الذي تمكن من سلوك الأجهزة الأمنية، حتى أصبح علاجه أو التطهر منه مستعصياً، ويتطلب مثابرة وجهداً كبيرين. ولعلنا لا نبالغ كثيراً إذا قلنا إن العمل بقانون الطوارئ لأكثر من ربع قرن أضفى على التعذيب شرعية نسبية، في أوساط أجهزة الأمن على الأقل، سمحت له بأن يستفحل، وأن يصبح خارجاً عن السيطرة بمضي الوقت.
وفي هذا الصدد فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الدور الذي أسهمت به أجواء ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول في إشاعة التعذيب وغض الطرف عنه، حيث اعتبر التعذيب لاستخلاص المعلومات من “ضرورات” الدفاع عن الأمن. وهو المنطق الذي سوقته وسوغته الولايات المتحدة، وطبقته على غير الأمريكيين بطبيعة الحال، الأمر الذي وفّر غطاء مناسباً لممارسات الأجهزة الأمنية في كل العالم العربي بلا استثناء. التي تذرعت بالحرب على الإرهاب لكي تبرر سلوكها وتتوسع فيه. وهو ما سجلته تقارير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات الدولية المعنية بالأمر.
(4)
يحمد للمناخ السائد في مصر الآن أنه بات يحتمل الحديث في الموضوع بقدر لا ينكر من الصراحة، وتلك إيجابية يلمسها أي قارئ للصحف المستقلة والمعارضة بوجه أخص، الأمر الذي يشجعني على الدعوة إلى إغلاق ذلك الملف، ليس فقط دفاعاً عن كرامة الإنسان والمجتمع المصري، ولكن أيضاً حفاظاً على صدقية الأطروحات التي تتحدث عن الإصلاح السياسي. ذلك أنه لا محل لإطلاق تلك الأطروحات طالما بقي مواطن يعذب أو احتجز بريء في الأقبية والسجون.
أدري أننا بإزاء وضع معقد استفحل فيه دور الأمن حتى تمددت أجهزته أفقياً ورأسياً، فتضخم عددها وصارت أذرعها حاضرة بقوة في مختلف مفاصل الدولة، وهو ما أحدث خللاً في موازين كثيرة. فتقدم الأمن على السياسة، وتوترت العلاقة بين السلطة والمجتمع التي أصبحت قائمة على التربص والخوف. إذ في ظل استمرار نظام الطوارئ تم نسخ شعار “السلطة في خدمة الشعب”، الذي رفع يوماً ما، دلت شواهد الواقع على أن الشعب صار في قبضة الشرطة.
ذلك وضع لا يستقيم مع أي “إصلاح” فضلاً عن أنه ضد التاريخ. ولا يكفي في علاجه الإعلان عن إلغاء قانون الطوارئ واستبداله بقانون للإرهاب لا يكاد يختلف عن سابقه إلا في العنوان، لأن الأهم والأخطر من الاثنين هو عقلية الطوارئ، التي أدمنت إهدار القانون العادي وضماناته، وسوّغت الاعتداء على الحريات العامة، وتعاملت مع المجتمع باعتباره خصماً يتعين مراقبته وتأديبه طول الوقت.
إن إغلاق ملف التعذيب وطي صفحته هما الخطوة الأولى للتقدم على طريق الإصلاح المنشود الذي يلوح هذه الأيام. ولن يتم ذلك إلا بالمصالحة مع المجتمع من خلال أمرين على الأقل، أولهما إطلاق سراح المعتقلين الذين يجدد حسبهم لسنوات طويلة، رغم انتهاء محكومياتهم أو الحكم ببراءتهم. وثانيهما التطهر من ممارسات السنوات السابقة ومعالجة جراحاتها وأحزانها. وأكرر هنا ما سبق أن قلته داعياً إلى تمثل تجربة لجان “الحقيقة والمصالحة” التي شكلت في المملكة المغربية، واستفادت فيها من تجربة جنوب إفريقيا بعد سقوط نظامها العنصري، وهي اللجان التي رعت إطلاق السجناء وتعويض الذين تعرضوا للتعذيب أو الذين فقدوا معيليهم من جرائه. وفي الوقت ذاته اعتذرت للمجتمع بشجاعة عن الممارسات التي أدت إلى كل ذلك. وهو ما أكسب التجربة احترام الجميع وثقتهم، فضلاً عن أن السلطة كبرت بها ولم تصغر.
أخيراً فإنني أكرر أن التعذيب والإصلاح نقيضان لا يجتمعان، تماماً كطريقي السلامة والندامة. وعلينا أن نحسم موقفنا منهما، بحيث نعرف بوضوح إلى أيهما ننحاز.
0 تعليق:
إرسال تعليق